الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام أولاهما: أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد، فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد.ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئًا من التوضيح: فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمينَ قبل العهد، وقد وقع حرب وقتال بينهم، ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء وقتال. وآية النساء هذه: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلًا} [90] تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني صخر من كنانة ألا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدوًا، وكتب بينه وبينهم كتابًا بذلك. وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله.أما المسألة الثانية: فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكف عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة.والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة، وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيامهم بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعد هذا من قبيل الإكراه في الدين، بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق، كما يمثل نظامًا جاهليًا فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة، وأن الإسلام الذي يشترط عليهم الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك، والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلًا وخلقًا وعبادة وعقيدة وعملًا. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب، أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم. انتهى.وواضح من هذه الفقرات التي اقتطفناها ومن أمثالها في تفسير المؤلف كله أنه ابتداء لا يلقي باله إلى حق الإسلام المطلق في أن ينطلق في الأرض لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وردها إلى الله وحده، حيثما كان ذلك ممكنًا له، بغض النظر عما إذا كان هناك اعتداء على أهله داخل حدودهم الإقليمية أم لم يكن.فهو يستبعد هذا المبدأ ابتداء. وهو المبدأ الذي يقوم عليه الجهاد في الإسلام. وبدونه يفقد دين الله حقه في أن يزيل العقبات المادية من طريق الدعوة، ويفقد كذلك جديته وواقعيته في مواجهة الواقع البشري بوسائل مكافئة له في مراحل متعددة بوسائل متجددة، ويصبح عليه أن يواجه القوى المادية بالدعوة العقيدية! وهو هزال لا يرضاه الله لدينه في هذه الأرض!وواضح كذلك أن المؤلف لا يلقي باله إلى طبيعة المنهج الحركي في الإسلام، ومواجهته للواقع بوسائل مكافئة. فهو يحيل الأحكام النهائية الأخيرة على النصوص المرحلية قبلها. دون التفات إلى أن النصوص السابقة كانت تواجه حالات واقعة غير الحالة التي جاءت النصوص الأخيرة تواجهها.. وحقيقة إن هذه الأحكام ليست (منسوخة) بمعنى أنه لا يجوز الأخذ بها مهما تكن الأحوال- بعد نزول الأحكام الأخيرة- فهي باقية لمواجهة الحالات التي تكون من نوع الحالات التي واجهتها. ولكنها لا تقيد المسلمين إذا واجهتهم حالات كالتي واجهتها النصوص الأخيرة، وكانوا قادرين على تنفيذها. إن الأمر في حاجة إلى سعة ومرونة وإدراك لطبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي كما أسلفنا.وبعد، فإننا نعود إلى العبارة التي افتتحنا بها الفقرة السابقة:والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه.. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين- وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة- كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم.كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يُفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع؛ والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله، أو تجعل فيه شركاء لله.. هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا} [الحج: 40] والذي يقول عنه سبحانه كذلك: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251].وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين:إحداهما: انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة؛ لنشر منهج الله في الأرض حوله؛ وإبلاغ كلمة الله إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة- في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان- حتى فتحت مكة، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف.وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه؛ وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة- تمهيدًا لما وراءها من أرض الله حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين- في ظروف مختلفة- عهدًا بعد عهد؛ بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده؛ أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين- ومن أهل الكتاب من قبلهم- فما كانت هذه العهود- إلا نادرًا- عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين؛ إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين! فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلًا أن ترى الإسلام ما يزال قائمًا حيالها؛ مناقضًا في أصل وجوده لأصل وجودها؛ مخالفًا لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعًا إلى عبادة الله وحده.وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين:{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217] والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109] ويقول فيها كذلك: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [البقرة: 120] فيعلن- سبحانه- بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين؛ وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان!وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه- على مدار التاريخ- بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام؛ ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية؛ ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرنًا؛ والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين- وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان- في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها: في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا.وفي الهند وكشمير. وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة.. وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي- أو الذي كان إسلاميًا بتعبير أدق- وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع، ومد يد الصداقة إليها، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة، وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة!إن شيئًا من هذا كله لا يصبح مفهومًا بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها..وقد تجلى ذلك القانون- كما أسلفنا- قبيل نزول سورة التوبة بعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما. وظهر بوضوح أنه لابد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين- وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة- أو تجاه أهل الكتاب، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده..ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة- حينذاك- لم يكن معناه وضوحه- بنفس الدرجة- لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم. وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم، فضلًا على ضعاف القلوب والمنافقين!كان في المجتمع المسلم- ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم- من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعًا- بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة؛ وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئًا ولم يظاهروا عليهم أحدًا- ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58] فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر، ربما بدا لهم مخالفًا لما عهدوه وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين.. ولكن الله- سبحانه- كان يريد أمرًا أكبر من المألوف؛ وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور!وكان في المجتمع المسلم كذلك- ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك- من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام؛ بعدما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب؛ ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم. ومن المتوقع أن تفيء رويدًا رويدًا- في ظل السلم- إلى الإسلام.. ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف.ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها، وأن تخلص الجزيرة للإسلام، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له؛ وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء!وكان في المجتمع المسلم- ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضًا!- من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها؛ وتأثير ذلك في موسم الحج، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يعمر المشركون مساجد الله. وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة؛ وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة!.. ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها- كما تقدم- وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها. سواء من القرابات والصداقات؛ أم من المنافع والمصالح. كما أنه- سبحانه- كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته.
|